في التاسع والعشرين من شباط من هذه السنة، قام الملياردير إيلون ماسك برفع قضية ضد شركة “OpenAI” متهما الأخيرة بالإخلال بالاتفاق والعقد الذي على أساسه أنشئت الشركة وتحصلت على دعمه وتمويله. لاحقا كتب حساب “OpenAI” على منصة “X” أنهم سيبطلون كل دعاوى ماسك، مما دفع الأخير ليرد عليهم واعدا أنه سيسقط دعوته إذا غيرت الشركة اسمها إلى “ClosedAI”.

القصة من البداية

تعدّ هذه الحادثة إحدى تجليات الحرب القائمة بين معسكرين يتبنيان مقاربتين مختلفتين في عالم الذكاء الصناعي. يدعو الفريق الأوّل إلى إتاحة نماذج الذكاء الصناعي للراغبين بسبر أغوارها فيما يُعرف بالمصدر المفتوح (Open source). أما الفريق الآخر، فهو ينتهج طريقة أخرى تُتيح التعامل مع النموذج كصندوق أسود، يستقبل المدخلات وينتج المخرجات بدون أن يعرف المستخدم ماذا يجري داخل الصندوق بالضبط. توصف هذه المقاربة أحيانا بالمصدر المغلق (Closed source) وتعتبر أنها ربحية خالصة. عوداً إلى قصة ماسك، ففي أواخر سنة 2015 تمّ تأسيس شركة “OpenAI”، وكان ماسك أحد المؤسسين والممولين لها. في 2018 غادر ماسك الشركة لأسباب تتعلق بتضارب المصالح مع شركاته الأخرى، لينقلب لاحقا على OpenAI التي اتهمها بالانحياز عن الرسالة التي أَنشئت لأجلها. بدا هذا الانحياز جليا مع الإعلان عن “ChatGPT”، النموذج الذي شكل علامة فارقة في مسار الذكاء الصناعي. ولكن كانت المفارقة أن الشركة التي تُسمى OpenAI (الذكاء الصناعي المفتوح)، جعلت من نموذجها مغلقاً بشكل كامل لتتبنّى من بعدها مقاربة ربحيّة بحتة من خلال إصدار سلسلة من النماذج المغلقة. ليست OpenAI الشركة الوحيدة التي تبنت هذا الاتجاه، فقد حذت حذوها شركتان أخريان من عمالقة الذكاء الصناعي وهما Google وAnthropic من خلال نماذجهم المعروفة: Gemini وPalm بالنسبة لGoogle وClaude بالنسبة Anthropic. في المقلب الآخر، تبنت شركات لا تقل أهمية مقاربة المصدر المفتوح بمستويات مختلفة من خلال إتاحة نماذجها للراغبين بالاطلاع على اعداداتها والتحكم بها. من هذه الشركات شركة Meta من خلال نماذجها المعرفة بـ LLaMa، وX من خلال نموذجها Grok وAlibaba من خلال نموذجها Qwen. ويجدر التنبيه هنا إلى أنّ النماذج المفتوحة المصدر ليست جميعها على مستوى واحد من الإتاحة، ففي حين تجد أنّ Grok على سبيل المثال متاح للاستخدام التجاري بدون قيود، فإن الرخصة الخاصة بـLLaMA تفرض بعض القيود التي تجعل استخدام النموذج أقل حريّة.

أيّهما أفضل؟

إذا أردنا أن نجيب باختصار على هذا السؤال فإن مقارنة مباشرة بين الأداءات تشير إلى تفوّق النماذج مغلقة المصدر على نظيراتها مفتوحة المصدر. إلا أنّ هذا الاختصار مخلّ ولا يعكس صورة السباق الحقيقيّة وذلك لعدّة أسباب. أهمّ تلك الأسباب يعود إلى أنّ الفجوة بين أداء النماذج المفتوحة والمغلقة المصدر لا يزال يتقلص منذ استعار السباق في 2022 إلى يومنا هذا، ولا يظهر حتّى اليوم أن هذه الفجوة ستتوقّف عن التقلّص قريبا. وهذا الأمر يدلّ على أنّ الفارق في الأداء وإن كان في صالح النماذج المغلقة المصدر حاليّاً، فإنّ هذا الواقع قد لا يدوم طويلاً وقد تنقلب الكفّة إلى الجهة المقابلة. أمّا الأمر الثاني الذي يجعل هذه المقارنة غير دقيقة، هو أنّها تُغفل مسألة أساسيّة تتعلّق بقدرة المستخدم على تعديل النماذج مفتوحة المصدر. هذا التعديل في كثير من الأحيان من شأنه أن يحسن أداء النموذج بشكل كبير، مما يجعله يتفوّق على نظيره مغلق المصدر الذي يعسر تعديله. إلّا أنّ هذا التعديل قد لا يتيسّر لكلّ المستخدمين لأنّه يتطلب قدرات حوسبة متقدّمة غير متاحة للجميع.

مذكرة جوجل المسرّبة

في أيّار من 2023 تسرّبت إلى العلن رسالة كتبها أحد موظّقي جوجل إلى مسؤوليه. في هذه الرسالة يشرح الموظّف رأيه فيما يتعلّق بمقاربة غوغل التي لا تتيح نماذجها الأحسن أداء للمستخدمين كما أسلفنا سابقاً. تبدأ الرسالة بالتحذير من أنّه في حين تولي جوجل الكثير من الانتباه لمنافستها OpenAI، فإن الحقيقة الصعبة هي أنّه في نهاية المطاف ليست جوجل ولا OpenAI من سيربح السباق، بل الشركات التي ستتبنّى مقاربة المصدر المفتوح, ثمّ يُفصّل الموظّف الأسباب التي دفعته إلى هذا الاعتقاد. يُركّز الموظّف في استعراضه على تداعيات حدثٍ وقع في بدايات شباط من 2023، حيث تسرّب أحد نماذج شركة Meta فيما أجبرها ـ في رأي البعض ـ على تحويل نماذجها إلى مفتوحة المصدر. يقول الموظّف إن المفارقة هي أن هذا الحدث كان المستفيد الأوّل منه هو Meta نفسها، وذلك أنّ جموع الباحثين انكبّت على النموذج المسرّب تحسّنه وتضيف إليه ابتكارات. يقول: من المفارقات أن الفائز الواضح الوحيد في كل هذا هو Meta. وذلك أنّ النموذج المسرب كان خاصًا بهم، وبذلك حصلوا عمليّاً على ما يعادل كوكبًا بأكمله من العمالة المجانية. وبما أن معظم الابتكارات مفتوحة المصدر باتت تُبنى على أساس بنية نموذجهم، فلا يوجد ما يمنعها من دمجها مباشرة في منتجاتها. ثمّ يسرد صاحب الرسالة مجموعة التحسينات والتعديلات التي أضافها المستخدمون إلى نموذج Meta المسرّب، وهي تعديلات يدرك المتخصّص يقينا أهميّتها ولا ينكر فضلها منكر. ويتساءل صاحب الرسالة: من سيدفع مقابل منتج جوجل مع قيود الاستخدام إذا كان هناك بديل مجاني وعالي الجودة بدون هذه القيود؟

ختاماً

إنّ الكلام النظري المتعلّق بمفاضلة النماذج مفتوحة المصدر بقريناتها المغلقة يطول، ولا يسع مقالاً واحداً أن يغطّي جميع جوانبه التقنيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة. ولكن إذا أتينا إلى الواقع اليوم نرى أنّ هذا السباق قد لا يكون له في النهاية فائز واحد يقضي على خصمه. وذلك أنّ تفضيل أحد الطرفين على الآخر يتعلّق بالمهمّة التي يُراد للنموذج تنفيذها، بالإضافة إلى قدرات المستخدم التقنيّة وموارد الحوسبة المتوفّرة بين يديه. فإذا أتينا أولا إلى النماذج مغلقة المصدر، فإنّه قد تلجأ إليها الجهات التي لا تمتلك البيانات أو الكفاءات لتعديلها، أو تلك التي تبحث عن حلول سريعة وآمنة مستفيدة من الدعم التقني الذي تقدّمه الجهات المالكة للنماذج. أمّا إذا كانت الجهات المستخدمة تسعى لبناء حلول خاصّة باحتياجاتهم، ويمتلكون بالإضافة إلى البيانات الموارد البشرية والحوسبيّة للقيام بذلك، فقد يكون من الأفضل لهم أن يلتفتوا إلى النماذج مفتوحة المصدر.